الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والمراد بهم عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأضرابُه الذين كانوا يسارعون في مُوادَّةِ اليهود ونَصارى نجرانَ، وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبَهم صروفُ الزمان وذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} وهو حال من ضمير يسارعون، والدائرةُ من الصفات الغالبة التي لا يُذكر معها موصوفُها، أي تدور علينا دائرةٌ من دوائر الدهر ودَوْلةٌ من دُولِه بأن ينقلبَ الأمرُ وتكون الدولةُ للكفار، وقيل: نخشى أن يصيبنا مكروهٌ من مكاره الدهر كالجدْب والقَحْط فلا يعطونا المِيرةَ والقَرْض. روي «أن عبادة بنَ الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي مواليَ من اليهود كثيرًا عددُهم وإني أبرأ إلى الله ورسولِه من وَلايتهم، وأُوالي الله ورسوله. فقال عبد اللَّه بنُ أُبي: إني رجل أخاف الدوائرَ لا أبرأ من وِلاية مواليَّ» وهم يهودُ بني قَيْقُناع، ولعله يُظهرُ للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخيرَ ويُضمِرُ في نفسه المعنى الأول وقوله تعالى: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطعٌ لأطماعهم الفارغة وتبشيرٌ للمؤمنين بالظفر، فإن «عسى» منه سبحانه وعدٌ محتوم، لما أن الكريمَ إذا أطْمَعَ أطعم لا محالة فما ظنك بأكرمِ الأكرمين؟ و{أن يأتي} في محل النصب على أنه خبرُ عسى وهو رأي الأخفش، أو على أنه مفعول به وهو رأيُ سيبويه، لئلا يلزَمَ الإخبارُ عن الجُثَّة بالحدَث كما في قولك: عسى زيد أن يقوم، والمراد بالفتح فتحُ مكةَ، قاله الكلبي والسُّديّ، وقال الضحاك: فتحُ قُرى اليهودِ من خيبرَ وفَدَك، وقال قَتادة ومقاتِلٌ: هو القضاءُ الفصلُ بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزازِ الدين {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} بقطع شأفةِ اليهود من القتل والإجلاء {فَيُصْبِحُواْ}.أي أولئك المنافقون المتعلَّلون بما ذُكر وهو عطفٌ على ما يأتي داخلٌ معه في حيز خبرِ عسى، وإن لم يكن فيه ضميرٌ يعود إلى اسمها، فإن فاء السببية مغنيةٌ عن ذلك، فإنها تجعل الجملتين كجملة واحدة {على مَا أَسَرُّواْ في أَنفُسِهِمْ نادمين} وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر والشك في أمره عليه الصلاة والسلام، وتعليقُ الندامة به لا بما كانوا يُظهرونه من موالاة الكفرة لِما أنه الذي كان يحمِلُهم على الموالاة ويُغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها. اهـ.
وقوله عز وجل: {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} حال من فاعل {يسارعون}، والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها داورة لأنها من دار يدور، ومعناها لغة على ما في «القاموس» ما أحاط بالشيء، وفي «شرح الملخص» إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدًا في جميع الجهات، وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضًا انتهى، واختلف في أن أي المعنيين حقيقة؟ فقيل: إنها حقيقة في الأول مجاز في الثاني، وقيل: بالعكس، قال البرجندي: وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا السطح ذات دور، على أن صيغة الفاعل للنسبة، وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن النقطة كانت دائرة؛ فسمى ما حصل من دورانها دائرة فإن اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازًا، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس انتهى.وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لا يخفى ما فيه، لأن إطلاقها بالاعتبار الثاني على المحيط أيضًا مجاز لأنه من باب تسمية المسبب باسم السبب اللهم إلا أن يقال: إنه أراد بكون إطلاقها على المحيط حقيقة أن إطلاقها عليه ليس مجازًا بالوجه الذي كان به مجازًا في الاعتبار الأول، فإن وجه المجاز فيه التسمية للمحيط باسم المحاط، وههنا ليس كذلك كما سمعت لكن هذا تكلف بعيد، ولو قال في وجه التسمية في اللاحق لأن هيئة الخط ذات دور على وفق قوله في وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا فتدبر، وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها، وقولهم هذا كان اعتذارًا عن الموالاة أي نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دوله بأن ينقلب الأمر للكفار وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم قاله مجاهد وقتادة والسدي.وعن الكلبي أن المعنى نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه كالجدب والقحط فلا يميروننا ولا يقرضوننا، ولا يبعد من المنافقين أنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ما قاله الكلبي، ويضمرون في دوائر قلوبهم ما قاله الجماعة المنبىء عن الشك في أمر النبي صلى الله عليه وسلم.وقد رد الله تعالى عليهم عللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وبشر المؤمنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} فإن عسى منه عز وجل وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم فما ظنك بأكرم الأكرمين، والمراد بالفتح فتح مكة كما روي عن السدي وقيل: فتح بلاد الكفار واختاره الجبائي، وقال قتادة ومقاتل: هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزاز الدين، وأن يأتي في تأويل المصدر، وهو خبر لعسى على رأي الأخفش، ومفعول به على رأي سيبويه لئلا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، والأمر في ذلك عند الأخفش سهل {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة، والجلاء لبني النضير عند مقاتل، وقيل: إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتلهم، وروي عن الحسن والزجاج، وقيل: موت رأس النفاق، وحكى ذلك عن الجبائي.{فَيُصْبِحُواْ} أي أولئك المنافقون، وهو عطف على {يَأْتِىَ} داخل معه في حيز خبر عسى، وفاء السببية لجعلها الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم، والمراد فيصيروا {على مَا أَسَرُّواْ في أَنفُسِهِمْ} من الكفر والشك في أمر النبي صلى الله عليه وسلم {نادمين} خبر يصبح وبه يتعلق {على مَا أَسَرُّواْ} وتخصيص الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذي كان يحملهم على تلك الموالاة ويغريهم عليها، فدل ذلك على أن ندامتهم على التولي بأصله وسببه.وأخرج ابن منصور وابن أبي حاتم عن عمرو أنه سمع ابن الزبير يقرأ عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين قال عمرو: لا أدري أكان ذلك منه قراءة أم تفسيرًا. اهـ.
|